الجمعة، 29 مايو 2015

الإسلامُ السياسيّ (1)

قبل نحو عشرين سنةً دُعيتُ إلى ندوةٍ في التلفزيون السوريّ، فقلتُ "إنّ الإسلام من معدن صدقٍ وأمانةٍ ووفاء، والسياسة من معدن كذبٍ وخيانةٍ وغدر. فإذا صارت السياسةُ صدقًا وأمانةً ووفاءً، فهذه هي السياسة الإسلاميّة." وخلال الندوة استشهدتُ بشخصيّتين: رجل دين، ورجل سياسة. رجلُ الدين كان محمد عبده، الذي تورّط في ثورة عرابي في مصر، وعندما فشلت نُفي إلى لبنان، وهناك كتبَ كتابه الإسلامُ والنصرانيّة بين العلم والمدنيّة، ولمّا تعرّضَ للسياسة قال عنها: "لعنَ اللهُ ساس ويسوس وسائس ومسوس وكلَّ ما اشتقَّ منها." وأمّا رجل السياسة فكان محمد علي باشا، الذي سمع عن كتاب الأمير لماكيافيلي، فطلب أن يُترجَمَ له، فلمّا تُرجِمَت الملزمةُ الأولى من الكتاب، قال للمترجم ما معناه: لا تترجمِ البقيّة، فأنا أشطرُ منه!
أحيانًا أقول للناس إنّ رسالة الأنبياء لم تنزلْ بعد إلى الأرض، بل ما تزالُ معلّقةً في السماء؛ ذلك لأنّ رسالةَ الأنبياء هي التنافسُ في استباق الخيرات وخدمةِ الآخر، بينما حوّلها أتباعُهم إلى التنافس في الإيذاءِ ورفضِ الآخر. فالقرآن يقولُ: "لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتابَ والميزانَ ليقومَ الناسُ بالقسط" (الحديد:25). ويقول أيضًا: "إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان" (النحل:90). ويقول: "وإذا حكمتم بين الناسِ أن تحكموا بالعدل" (النساء:58)، ولم يقلْ بين المؤمنين أو العرب وإنّما بين الناس. ويقول: "ادفعْ بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليٌّ حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍّ عظيم" (فصلت:34). ومعنى هذا أنّ الإحسان صعبٌ، ولكنّ عاقبته تحويلُ الناس إلى أولياء حميمين.
وهناك أمثلةٌ في التاريخ الإسلاميّ تُظهِر خيارَ الإحسان رغم توفّر القوّة. فقد عقد الرسولُ معاهدةً مع قريش بالإحسان في صلحِ الحديبيّة، فوقفتِ الحربُ بين قريش والمسلمين على معاهدةٍ تدوم عشرَ سنوات. هنا كتب الرسولُ إلى زعماء العالم آنذاك، ووضع في كتابه قولَه تعالى: "يا أهلَ الكتاب تعالوْا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبدَ إلاّ الله، ولا نشركَ به شيئًا، ولا يتّخذ بعضُنا بعضًا أربابًا من دون الله. فإنْ تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون" (آل عمران:64). "كلمةُ السواء" رمزُها الرياضيّ هو (=)؛ أيْ تعالوا نضع رمزَ "يساوي" بيننا وبينكم؛ فكلُّ ما نعطيه لأنفسنا نعطيه إليكم. أما كلمة "مسلمون" هنا فتعني مسلمين بكلمة السواء، أيْ مؤمنين بالمساواة. ويقول القرآن: "وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلها" (الفتح:26). وكلمةُ "التقوى" حين نفهمها ونلتزمُ بها لا يصيبُنا سوءٌ، ولا يبقى لنا عدوٌّ، بل يتحوّل الناسُ إلى أولياء حميمين.
ما زلنا، ببطء شديد، نكتشف هذه الإمكانات في خلقِ علاقاتٍ من نوعيّةٍ جديدةٍ بين البشر. وهذا ٍالذي يجعلني أقول إنّ ما جاء به الأنبياءُ لم ينزلْ بعد من السماء. غير أننا نرى تباشيرَه في الغرب في نموذج الاتّحاد الأوروبيّ، إذ توحّدوا من غير إرسال جيوش، ونرى أنّ الأتراك جزءٌ من هذه التباشير أيضًا، إذ يقدّمون نموذجًا جديدًا للإسلام السياسيِّ خارج ظلِّ السيف: فقد وصل الإسلاميون إلى الحكم بالديمقراطيّة، فانقلب عليهم الجيشُ، وشنق رئيسَ الوزاء المنتخب ديمقراطيّاً عدنان مندريس، ومع ذلك صبروا على التحدّي الديمقراطيّ ثمانين عامًا، ولم يلجؤوا إلى العنف أو الاغتيال، حتى وصلوا إلى رئاسة الوزراء ورئاسة الجمهوريّة، وأوقفوا الاختلاساتِ وسرقةَ الأموال (لم يكن الأتراك قادرين على دفع فوائد الديون خلال حكم العسكر لعقودٍ طويلة). كما أنهم وضعوا حدّاً للفساد، وقضوا على الديون، وارتفع دخلهم عشراتِ المرّات (يقال إنّ تركيا تُعَدُّ الآن الخامسةَ عشرةَ في ارتفاع الدخل).
لقد أثبت الأتراك تمسّكَهم بالديمقراطيّة، وسيقبلون أن يتنازلوا عن الحكم حين يفقدون أغلبيّةَ الأصوات. وهذا نموذجٌ جديدٌ نشهدُه في المنطقة، إذ سيبقون متنافسين في خدمة شعبهم، الذي منه أخذوا شرعيّتهم. ولذلك قالوا لأمريكا حين أرادت أن تمرَّ بجيوشها إلى العراق: "سنستشيرُ الشعبَ الذي أوكلنا بخدمته،" ولم يقبل الشعب ولا البرلمان أن يمرّ الأميركانُ من بلدهم.
إنّ الخوف من الحكم الإسلاميّ في البلاد العربيّة ليس في مكانه. ذلك لأنّ الوصول إلى الحكم عن طريق الانتخابات سيسمح للجميع بالتنافس على الوصول، وسيصوّت الشعبُ لمن يخدمُ مصالحه أكثر ويحقّق العدلَ أكثر.
إنّ الدماغ البشريّ هو روحُ الله المنفوخ في الإنسان. إنه الأمانةُ التي عرضها اللهُ على السموات والأرض والجبالِ فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. هذا الدماغ هو الذي علّم الإنسانَ الزراعة قبل عشرة آلاف سنة، واستأنس الحيوان، ودفعه إلى وضع الرموز للأصوات، فابتكر الكتابةَ، وصارت الأفكارُ التي تموت بموت أصحابها خالدةً لا تموت. ولكنّ الورقَ عمرُه ألفُ سنة فقط، والطباعة عمرُها خمسةُ قرون فقط، أمّا الحفظ الإلكترونيّ فمنذ عقود قليلة. هذا الانفجار المعرفيّ جعل الكرة الأرضيّةَ "قريةً عالميّةً."
ولكنّ الرحلة البشريّةَ لم تخلُ من تحدّيات الفكر، ومن تحويل الدين أداةً للأذيّة ولقتل المختلف. فقد أُحرق برونو في ساحةٍ عامّةٍ في روما بمباركة الكنيسة والدولة عام 1600 بسبب أفكاره عن الفلك والدين. وجاليلو أنقذ نفسه من نهايةٍ مماثلةٍ بتراجعه عن نظريّاته في الفلك. وفي العالم الإسلاميّ أُعدمَ محمود طه شنقًا في السودان، ولم يتراجع كما تراجع بعضُ أتباعه منذ خمس وعشرين سنة فقط، إذ كان ضحيّةَ تنفيذ النميري لـ "شريعة الله."



الشيخ جودت سعيد


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق