الأربعاء، 30 يوليو 2014

العبادة المفقودة .. مراقبة الله تعالى



بسم الله الرحمن الرحيم



المقدمة






إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله r، وعلى آله وأصحابه تسليمًا كثيرًا، ومن سار على نهجه وسلك طريقه إلى يوم القيامة.





أما بعد:






فمن المعلوم أن الله تعالى خلقنا لأعمال نبيلة ولحكم جليلة، لم يخلقنا عبثًا، قال تعالى: } أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ { [المؤمنون: 115]، وقال تعالى: } وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ { [ص: 27].






ولم يوجدنا للغذاء والسقاء والكساء والدواء فقط؛ فإن هذه حياة العموم، وليست حياة الخصوص.






ليست المقاييس بالأطعمة ولا بالأشربة، فالرسول r كان يربط على بطنه الحجر والحجرين من شدة الجوع وعدم وجود الطعام.



وليست المقاييس بالمناصب، فقد قال r فيما يرويه أبو هريرة t: «رب أشعث مدفوع الأبواب لو أقسم على الله لأبره»([1]).






وليست المقاييس بالصحة، فإن أيوب u بقي مريضًا 18 سنة، فلم يخلقنا الله للغذاء ولا للكساء ولا الدواء، لأن هذه حياة الكافرين وحياة الدواب، يقول تعالى: } إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ { [محمد: 12].







ويقول r: «شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، يأكلون ألوان الطعام، ويلبسون ألوان الثياب، ويتشدقون في الكلام»([2]).






وإنما خلقنا الله تبارك وتعالى لعبادته، وأوجدنا لطاعته، وجعل العبادة تشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال والأعمال الظاهرة والباطنة، وجعل العبد بالعبادة يسمو ويرتفع الدرجات العالية، جعله بالعبادة يشرف أعظم شرف.






يقول الله تعالى عن شرف العبودية في حق الملائكة: } وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ { [الأنبياء: 26]، فلم يقل ملائكة، وإنما قال: } عِبَادٌ { ، فوصفهم بالعبودية، ووصفهم بالكرم بعد العبودية، فاستحقوا أن يكونوا من أهل الكرم بالعبودية، فقال: } بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ { .






وقال عن هذا الشرف، شرف العبودية في حق الأنبياء: } وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ { [ص: 45]، فلم يقل واذكر أنبياءنا أو اذكر رسلنا، وإنما قال: } وَاذْكُرْ عِبَادَنَا { .






وذكر هذا الشرف في حق رسولنا r، فوصفه بالعبودية في أربعة مواطن شريفة:






* الموطن الأول: عند الإسراء والمعراج، قال تعالى: } سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ { [الإسراء: 1] عرج به إلى السماء السابعة، ثم أسري به إلى المسجد الأقصى، ثم أسري به إلى المسجد الحرام في ليلة واحدة، إنه شرف عظيم استحقه بالعبودية لأنه قال: } سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ { .






* الموطن الثاني: عندما نزل القرآن عليه، وهو أعظم الكتب التي نزلت، وهو الحفظ في الدنيا والآخرة، شرفه بهذا الكتاب لأنه كان عبدًا، قال تبارك وتعالى: } تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا{ [الفرقان: 1].






* الموطن الثالث: عند الوحي إليه، قال تعالى: } فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى { [النجم: 10].






* الموطن الرابع: عند قيامه بالدعوة، قال تعالى: } وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا { [الجن: 19].






* بل ويا أحبتي شرف الله أولياءه بالعبودية، قال تعالى: } وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا { [الفرقان: 63]، لم يقل خلق الرحمن، بل قال: } وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ { فوصفهم بأشرف صفة فقال سبحانه: } وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ { .






وبلين r شرف العبودية في قيام الليل؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله r إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا»([3]).






والعبودية أيها الإخوة هي وظيفة الدنيا من أولها إلى آخرها وظيفة العبد في دنياه حتى الموت، ليس معه وظيفة غيرها، قال الله تعالى: } وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ { [الحجر: 99]، وقال تعالى: } وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ { [الذاريات: 56-58].






* العبودية هي حق الله على العباد فإن لله على خلقه حقًا، وقد جعل لعباده عليه حقًا تكرُّمًا وجودًًا وتفضلاً؛ فعن معاذ بن جبل t قال: بينا أنا رديف النبي r ليس بيني وبينه إلا أخرة الرحل فقال: «يا معاذ» قلت: لبيك يا رسول الله r وسعديك. ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ» قلت: لبيك رسول الله وسعديك. ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: «هل تدري ما حق الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قلت: لبيك رسول الله وسعديك. قال: «هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حق العباد على الله أن لا يعذبهم»([4]).






* العبودية هي رسالة الرسل إلى أممهم: فما من رسول أرسل إلى أمه إلا وأمرهم بعبادة الله، قال تعالى: } وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ { [النحل: 36].






* العبودية هي الملك الأخروي الذي لا يزول ولا يحول ولا يفنى؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله r: «يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب، جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة فقال إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك إن شئت نبيًا عبدًا وإن شئت نبيًا ملكًا، قال فنظرت إلى جبريل، قال فأشار إلي أن ضع نفسك، قال فقلت نبيًا عبدًا» قال: فكان رسول الله r بعد ذلك لا يأكل متكئًا، يقول: «آكل كما يأكل العبد, أجلس كما يجلس العبد»([5])، فاختار العبودية على الملك لأنها الملك الدنيوي والملك ألأخروي الذي لا يفنى ولا يزول.






* العبودية هي الحرز والحفز والحصانة والوقاية من العدو اللدود المبين المترصد الذي وقف لنا بكل طريق، العدو الذي جاءنا من كل جانب، العدو الذي طلب من ربه الإنظار من أجل إغوائنا جميعًا.






كيف نتحصن بالعبودية؟ نكون عبيدًا لله ولا نكون عبيدًا للنفس، ولا للمال، ولا للأهل، ولا للولد، ولا للزوجة، ولا للعادة، ولا للعرف، وإنما نكون عبيدًا لله عز وجل، ونخلص العبودية لله ونحرص ونحفظ بهذه العبودية من العدو، قال تعالى: } إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ { [الحجر: 42]، ويقول: } قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ { [ص: 82، 83].






* العبودية أيها الإخوة سبب من أسباب مغفرة الذنوب، وما أكثر الذنوب، من منا يستطيع أن يحصي ذنبه؟ لا أحد يستطيع أن يحصي ذنوبه.






ذنوبنا كثيرة، ولو كان لأحدنا في كل يوم ذنب واحد وعمره ستون سنة، بكم ذنب يلقى ربه؟ بواحد وعشرين ألف ذنب، هذا إذا كان ذنب واحد في كل يوم، ومن لا يذنب في اليوم إلا ذنبًا واحدًا؟ الذنوب كثيرة، وأسباب مغفرة الذنب أن يكون الإنسان عبدًا لله عز وجل، قال تعالى: } نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ { [الحجر: 49]، قال تعالى: } قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ { [الزمر: 53].






* لكن إذا أردنا أن نؤدي العبودية على أكمل وجه وإذا أردنا أن نحفظ بها الدنيا، وإذا أردنا أن نحفظ بها العمل، ونحفظ بها العمر، ونسعد بها في الآخرة، ونرتفع بها الدرجات العالية، ونرضي بها الرحمن، ونغضب بها الشيطان، فلا بد لنا أن نراقب الله تعالى مراقبة دقيقة جليلة.






إذًا: ما العبادة المفقودة؟








«مراقبــة الــرب»






وحتى نعلم تقصيرنا في مراقبة الله تعالى فلننظر أحوال الناس؛ هل مراقبة الرب في المسجد تكون مثل مراقبة الرب في البيت؟ أم أن المراقبة في المسجد مرتفعة، وفي البيت منخفضة، لننظر لهم في سياراتهم، في أعمالهم، في أسواقهم، في شوارعهم، المراقبة عندهم منخفضة انخفاضًا شديدًا، بل لربما كانت المراقبة مفقودة عند كثير من الناس، حتى في الصلاة يوم أن يكبر العبد ثم ينصرف من صلاته إلى ضيعته ودنياه في أعظم عمل وأقرب عمل يتقرب به العبد إلى ربه عز وجل.






وإذا أردنا أن نؤدي العبودية على الوجه المطلوب فإنه لابد أن نراقب الله مراقبة دائمة دقيقة جليلة، بأن نعبد الله وكأننا نراه، فإن كنا لا نراه فإنه يرانا، يجب أن نراقب الله مراقبة دائمة، فلا نضيع المراقبة إذا دخلنا بيوتنا مع عتبات الأبواب، بل نراقبه في البيوت كمراقبته في المساجد، ولنحذر أن نضيع المراقبة يوم أن نركب السيارة ونذهب بها يمنة ويسرة وننظر يمنة ويسرة، فلا نحارب الله بهذه النعمة التي وهبنا إياها.






* يجب أن تكون المراقبة لله دائمة، نراقبه في كل زمان؛ لتصلح لنا جميع الأزمنة، فلو راقبنا الله، لصلحت لنا الأزمنة، وكانت جميع أزمنتنا صالحة، لا نراقبة في زمن دون زمن، نراقبه في الليل كله أوله وآخره، وفي النهار كله أوله وآخره، نراقبه تبارك وتعالى؛ لأنه حي لا يموت، ومن كانت حياته دائمة فيجب أن تكون مراقبته دائمة، ولأنه لا ينام ومن كان لا ينام وجب أن تكون مراقبته دائمة، ولأنه الذي نعمه علينا دائمة، ومن كانت نعمه دائمة وجب أن تكون مراقبته دائمة.






* ويجب أن نراقبه في كل مكان؛ لتصلح لنا جميع الأمكنة؛ لأننا إذا راقبناه في البيوت، صلحت لنا البيوت، وإذا راقبناه في الشوارع، صلحت الشوارع وإذا راقبناه في المساجد صلحت المساجد، وإذا راقبناه في الأسواق صلحت السواق، ويجب أن نراقبه في جميع الأمكنة لتصلح لنا جميع الأمكنة، فلا نراقبه في مكان دون مكان، بل نراقبه في المنزل.






الله الله يا أهل المنازل: في مراقبة الله في منازلكم؛ لتكون محاضن خير، ولا تكون محاضن شر. نراقبه في كل مكان؛ في المنزل وفي المسجد وفي السوق وفي الشارع والعمل؛ لأنه الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض، قال تعالى: } أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { [المجادلة: 7]، وقال: } وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ { [الأنعام: 59].






* يجب علينا أن نراقب الله على كل حال لتصلح لنا جميع الأحوال، ولا نراقب في حال دون حال، بل نراقبه في جميع الأحوال، نراقبه في الشباب؛ لأن مقدار درجة المراقبة عند الشباب منخفضة؛ ليسمح لنا الشباب أن نقول إن درجة المراقبة عندهم منخفضة، لكن الواقع يفرض علينا أن نقول هذه الكلمة:






أيها الشباب: يا من أمدك الله بالصحة والعافية والقوة والفتوة والجمال، ألا تراقب الملك العلام! ألا تشكر الله على هذه النعمة العظيمة.






* كذلك نراقبه في الهرم: لأن كثيرًا من كبار السن لا يزال في عتوه، وهو يرى الشيب قد لاح في وجهه، واحدودب ظهره، وهو لا يزال بعيدًا عن المراقبة، رق عظمه، وبدأ جسمه يرتعش، ولا يزال بعيدًا عن المراقبة، لنراقبه في الشباب وفي الهرم، وفي الصحة والسقم، وفي الغنى والفقر، وفي الفراغ والشغل، وفي اليقظة والمنام، وفي القيام والقعود وعلى جنب، نراقبه على كل حال؛ لأنه الذي لا تخفى عليه خافية ولا تغيب عنه غائبة، واعلموا أيها الإخوة:






المراقبة لا تتحقق إلا بثلاثة أمور:








1- أن توقن أن الله تعالى يعلم ما في صدرك قبل أن يكون على لسانك، فالله يعلم ما في صدور الجميع، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، قال تعالى: } وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ { [ق: 16]، كان فضالة بن عمير الليثي قبل إسلامه لما دخل النبي r مكة وأخذ يطوف بالكعبة وقال لبلال: «اصعد على الكعبة وأذن» أول أذان يدوي في جنبات مكة بعد فتحها فصعد على الكعبة وأخذ ينادي: الله أكبر، وكان فضالة بن عمير ممن تضرر بهذا الأذان وهو يطوف حول الكعبة ينظر إلى النبي r وهو يقول في نفسه: هذا الذي فرق جماعتنا، وشتت أحزابنا، وسفه أحلامنا، وعاب آلهتنا، ثم قال في نفسه: لو أنني ضربته بهذا السيف في يدي لأرحت الناس منه – على حد زعمه – ثم يدور دورة أخرى، ويقول مثل هذا الكلام في صدره فيلتفت إليه النبي r ويقول: «أفضالة قال: نعم، قال: «ما الذي حدثت به نفسك؟» من الذي نقل وقائع ما في صدر فضالة؟ إنه الله.






فيا من أسر في قلبه سريرة سيئة لإخوانه: ألا تتقي الله رب العالمين؟ إن الله يظهرها وإن أخفيتها، إما في فلتات اللسان أو في قسمات الوجه، وإما في التعامل، إن الله لا تخفى عليه خافية، قال r: «استغفر ربك يا فضالة»، قال: أستغفر الله. والله لا يعلم بما في صدري إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وما أخبرك بما في صدري إلا الله، وأسلم فضالة بن عمير الليثي.






ولو أخرج الله ما في صدور بعضنا لبعض لأُحرج بعضنا من بعض.






2- أن نوقن بأن الله يسمع كلامنا الذي نتكلم به ويحصيه، وعلينا أن نسأل أنفسنا: هل أسمعنا الله ما يرضى به أو يغضب له؟ وأنه قد وظف معنا من يحصي كلامنا. قال الله عز وجل: } مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ { [ق: 18]، ولا يتحقق لنا الإسلام الحق حتى يسلم الناس من ألسنتنا وأيدينا؛ فعن عقبة بن عامر قال قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك»([6]).






وإذا راقبنا الله في الكلام سلمت لنا الدنيا والآخرة، فإن العبد يتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى يكتب بها رضوانه إلى يوم يلقاه. وإن الأعضاء كلها تكفر اللسان وتقول: «اتق الله فينا فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا»([7]).






3- أن توقن بأن الله يراك، ويرى عملك الذي أنت تعمل. قال الله تعالى: } الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [الشعراء: 218-220]، وقد أمر الله تعالى بالمراقبة فقال تعالى: } وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ { [الحجر: 99]، وأمر بها النبي r في كل زمان وفي كل مكان وعلى كل حال. فعن أبي ذر t قال: قال لي رسول الله r: «اتق االله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»([8]).






اللهم الطف بحالنا يا ربنا، نراقبك في المسجد وننسى المراقبة إذا خرجنا من المسجد.






لو أن الناس راقبوا ربهم في منازلهم هل ستبقى الأجهزة المحرمة في البيوت؟ الجواب: لا.






لو أن الناس راقبوا ربهم هل يأخذ إنسان مال إنسان آخر؟ الجواب: لا.






لو أن الناس راقبوا ربهم هل يوجد في المحاكم معاملات من ظالم على مظلوم؟ الجواب: لا.






لكن ضعف المراقبة في كل شيء مع أننا مأمورون بالمراقبة على كل حال كما يقول r: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»، وقد ورد أن امرأة راودها رجل عن نفسها فأبت فأكرهها، فأرادت أن تعظه بأعظم موعظة وهي مراقبة ربه، لأنه لم يجن هذه الجناية إلا لأنه لم يراقب الله ونسي أن الله يراه، وبعد الإجبار قالت له: أغلق جميع الأبواب، فأغلق جميع الأبواب المحسوسة التي بينه وبين الناس (الأبواب البشرية) ونسي أن الباب الذي بينه وبين الله مفتوح أو مكشوف، فقالت له: هل أغلقت جميع الأبواب؟ قال: لم يبق باب إلا وأغلقته، فقالت له: بقي باب مفتوح لم تغلقه! قال: أي باب؟! قالت: بقي الباب الذي بيننا وبين الله مفتوح، ألا تخاف الله؟ .. فارتعد وخاف ووجل فتركها خوفًا من الله الذي يراه حيث ما كان، وتاب هذا الرجل واستقام حاله.






فينبغي أن نعلم يقينًا أن هذا الباب مفتوح إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويجب أن تعلم أن ما يسترك من الله ظلام ولا سحاب ولا سقف ولا غطاء، أنت مكشوف لله عز وجل على الدوام، ألا تستحي من الله! لو كان أحدنا مع رجل صالح هل سيسمعه الكلام المحرم؟ ستقولون: لا, بل يترك الكلام المحرم من أجل هذا الرجل الصالح، وهل سيعمل السيئة مع الرجل الصالح؟ لا، لا يعلمها من أجل الرجل الصالح. قال رجل يا رسول الله: أوصني. قال: «أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك»([9])، «والحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى وأن تذكر الموت والبلى وأن تراقب العلي الأعلى».






قال رجل لإبراهيم بن أدهم: أوصني قال: «أوصيك بخمس ولكن احفظها، وينبغي أن تعيها، وأن تعمل بها، والإنسان عند الموعظة مطالب بأربعة أمور:






1- السماع.



2- الوعي.



3- العمل.



4- دعوة الناس إلى الموعظة.






كما في حديث عبد الله بن مسعود t قال رسول الله r: «نضر الله امرًأ سمع منا شيئًا فبلغه كما سمع، فرب مُبلِّغ أوعى من سامع»([10])، قال هذا الرجل لإبراهيم بن أدهم:







أعطني الأولى:





1- قال إذا أردت أن تعصي الله, فلا تأكل من رزقه، قال: هل هناك رزق غير رزق الله عز وجل؟ قال: فكيف تأكل من رزق الله وتعصيه؟! رزق أنعم به الله عليك، فتحارب الله بهذا الرزق! أليس الناس يحاربون الله بنعمه؟ هل هذا كفران أم إحسان؟ هل جزاء الإحسان إلا الإحسان، خيره إلينا نازل، وشرُّنا إليه صاعد، يتحبب إلينا بالنعم، ونتبغض إليه بالمعاصي.






قال أعطني الثانية:





2- قال إذا أردت أن تعصي الله فاعصه في غير أرضه، ابحث عن أرض ليست لله واعصه فيها، قال: كل الأرض لله، قال: فكيف تعصي الله في أرضه؟ أنعَمَ عليك بالأرض وذلَّلها ومهدها وجعل فيها النبات، ومع ذلك تعصيه في أرضه التي أنعم بها عليك.






قال أعطني الثالثة:





3- قال إذا أردت أن تعصي الله فاعصه في مكان لا يراك فيه، قال: وأنى أجد مكانًا أختفي فيه؟! كل شيء مكشوف أمام الله عز وجل، فقال: فكيف تعصي الله وهو يراك؟






قال أعطني الرابعة:





4- قال إذا أردت أن تعصي الله وجاء ملك الموت يريد أن يقبض روحك فاطلبه أن يمهلك حتى تتوب. قال: إنه لا يوافقني ولا أدري متى يأتيني، ولربما جاءني على غرة. قال: فاستعد له، فأنت لا تدري متى يقبض الروح، أيقبضها على عمل صالح أم يقبضها على عمل سيء، استعد للموت.







قال أعطني الخامسة:





5- قال إذا أردت أن تعصي الله وجاءتك الزبانية يجرونك إلى النار فلا تذهب معهم، قال: إنهم لا يوافقونني؛ يقول الله تعالى: } خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ { [الحاقة: 30-32]، قال: فيجرونني على وجهي إلى النار. قال: فاستعد قبل أن تندم، فاستفاد الرجل من هذه المواعظ الخمس، واستقامت أموره وعاد إلى رشده وصوابه.










صفات أهل المراقبة لله:








1- أنهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، محبوبون في الدنيا ومحفوظون في الآخرة، لا يحزنون على ما مضى من أعمارهم في الدنيا، ولا يخافون من مستقبل حياتهم في الآخرة، آمنون لا يخافون ولا يحزنون، قال تعالى: } أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ { [يونس: 62-64].






2- أنهم أهل البشرى؛ لهم البشرى في الحياة الدنيا ولهم البشرى عند الموت، ولهم البشرى في الآخرة.






* أما بشراهم في الدنيا فثلاث بشارات:








* البشارة الأولى: البشارة بعظيم الثواب على العمل الصالح.



* والبشارة الثانية: البشارة برفع الدرجة لهم عند الله.



* أما البشارة الثالثة: فهي البشارة لهم بمغفرة ذنوبهم.



* أما البشارة عند الموت فهي بشارتهم بالجنة.



* أما البشارة في الآخرة فهي البشارة بالنعيم الأبدي والخلود السرمدي في الجنة قال الله تعالى: } لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ { [يونس: 64].






3- رفعة درجاتهم عند الله تعالى لأنهم وصلوا إلى أعلى درجة في الإيمان، وأعلى درجة في الدين وهي الإحسان؛ لأن أعمالهم تصعد وليست أعمالاً تنزل، قال تعالى: } مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَللهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ { [فاطر: 10]، ومما يروى أنه كان عند أحد الشيوخ طلاب كلهم من كبار السن إلا طالبًا واحدًا صغير السن، وكان الكبار يرون أن الصغير لا يجلس معهم، فقالوا للشيخ: نريد أن تبعد عنا هذا الصغير وإلا نأتي بأولادنا، فاختبرهم ليخبرهم أن هذا الصغير عنده مراقبة أفضل من مراقبتهم، فقال لهم: هذه سكين وهذا طائر، وأريد من كل واحد منكم أن يذهب إلى مكان لا يراه فيه أحد فيذبح الطائر ويعود به إليَّ، فكل واحد منهم أخذ الطائر والسكين وذهب إلى مكان لا يراه فيه أحد وذبح طائره وعاد به مذبوحًا إلا هذا الشاب، فقد عاد بطائره حيًا. قال الشيخ لهؤلاء: أذبحتم طيركم؟ قالوا: نعم، وجدنا مكانًا لا يرانا فيه أحد، فكل منا عمد إلى طائره، فذبحه وعاد به مذبوحًا. قال للشاب: وأنت هل ذبحت الطائر؟ فقال: لا، لم اذبحه قال: ولم؟ قال: لأنني بحثت عن مكان لا يراني فيه أحد فلم أجد مكانًا لا يراني فيه أحد لأنني مكشوف أمام الله في كل مكان. قال لهم: هكذا أدنيته؛ لأنه صاحب مراقبة لله عز وجل.






4- أنهم الأحرار الذين تحرروا من عبودية النفس والمال والولد والدنيا، وجعلهم الله أحرارًا بالعمل الصالح في الدنيا والآخرة وفي القبر:






* أحرار في الدنيا بالأعمال الصالحة، يعملون الأعمال الصالحة المتنوعة، لا يقيدون أنفسهم بعمل واحد لأن من الناس من هو محبوس على الذكر، ومن الناس من هو محبوب على الصلاة ما له نصيب في الصدقة ولا من الصيام ولا القيام ولا عمل البر الآخر، أما أهل المراقبة فهم أحرار في كل طاعة، لهم في كل طاعة سبق.






* وفي القبر حريتهم في مسكنهم على مد البصر ليسوا محبوسين فيضيق عليهم القبر، وفي نورهم على مد البصر وفي نعيمهم يفتح لهم باب إلى الجنة.






* وحريتهم في الآخرة، لهم الجنة وآخر من يدخل الجنة له مثل الدنيا عشر مرات، وقد حررت المراقبة أهلها من الرق؛ فها هو عمر t وأرضاه أراد أن يقرر هذه الحقيقة، فخرج في يوم من الأيام فوجد راعي غنم، فقال له عمر: أعطني شاة. قال هذا الراعي: أنا أجير عليها ولست صاحبها، قال أعطني الشاة، وقل لصاحبها: أكلها الذئب، وعمر t يريد أن يختبر مراقبة هذا الراعي لربه تعالى، فقال الراعي: أقول لصاحبها: أكلها الذئب، ولكن ماذا أقول لله إذا عدت إليه وسألني عنها؟ فأعجب به عمر فذهب، فتعرف على سيد هذا الراعي ثم اشتراه منه فأعتقه، ثم قال: أعتقتك هذه المراقبة في الدنيا وأرجو أن تعتقك في الآخرة.






5- أنهم أهل الحسنى وأهل الجنة وأهل النظر إلى وجه الله الكريم، قال الله تعالى: } لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ { [يونس: 26]، أما الحسنى: فهي الجنة، أما الزيادة: فهي النظر إلى وجه الله الكريم، كما فسرها النبي الكريم r في الحديث الذي رواه مسلم: عن صهيب عن النبي r قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة- قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل»([11])، وفي رواية أخرى زاد: «ثم تلا هذه الآية } لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ { »([12]).






6- أنهم أهل صلاح وإصلاح لغيرهم، أهل صلاح في نفوسهم وأهل إصلاح لغيرهم، أهل صلاح في نفوسهم لأن قلوبهم ملئت بمراقبة الله عز وجل، وسلمت من كل شائبة، وألسنتهم ملئت بمراقبة الله عز وجل، فسلمت واستقامت، واستنارت ونجت، وجوارحهم ملئت بمراقبة الله عز وجل فحبسوها على طاعة الله، وحبسوها عن معصية الله وراقبوا الله تعالى على كل حال، وما يروى أن امرأة جميلة في يوم من الأيام أرادت أن تظهر لزوجها جمالها فنظرت في المرآة وقالت لزوجها: أترى هذا الوجه لا يفتن أحدًا إذا رآه؟ قال: نعم. لا يفتن رجلاً واحدًا، قالت: من هو؟ قال: عبيد بن عمير «رجل صالح» يدرس الناس ويعلم الناس ويتقرب إلى الله عز وجل، وكان يجلس في المسجد الحرام، قال: أما عبيد بن عمير، لا تستطيعين أن تفتنيه. قالت: أتأذن لي أن أفتنه؟ قال: نعم. وهذا القول يدل على الدياثة؛ لأنه لا بد أن يكون لدى الإنسان غيرة على محارمه، وكل دابة تغار على أنثاها، إلا الخنزير فإنه لا يغار على أنثاه؛ أما بقية الدواب فتغار على إناثها، قال لها: اذهبي إليه «وهذه من وسائل الإفساد»، فذهبت إليه المرأة متحجبة حتى وصلت إليه وهو في المسجد، فقالت له: أيها الشيخ لي إليك حاجة، قال: ماذا تريدين؟ فكشفت وجهها، وإذا به كفلقة القمر، فنكس رأسه إلى الأرض ممتثلاً أمر الله في قوله: } قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ { [النور: 30]، ومن المؤسف أن بعض الناس يقول: معي ممرضة ولا أستطيع غض البصر، لابد أن أنظر إليها، نقول له: أين أنت أيها الطبيب من الآية: } قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ { [النور: 30]؟ فالآية لعموم الأمة حتى ولو كنت طبيبًا لا يجوز للطبيب أنه ينظر إلى الممرضة، هذا حكم عام للطبيب وغيره، الشاهد: أن عبيد بن عمير غض بصره، نكس رأسه إلى الأرض خجلاً وحياءً من الله، قالت هذه المرأة: لي إليك حاجة، فاقض حاجتي، قال: يا أمة الله اسمعي مني هذه النصائح! وأعطاها أربع مواعظ في المراقبة وهو منكس رأسه إلى الأرض.






1- قال يا أمة الله: أرأيت لو نزل بك ملك الموت ليقبض روحك، أكنت ترغبين أننا قضينا حاجتنا منك، قالت: لا والله. فذكرها بالموت الذي غفلت عنه ونسيته.






2- قال يا أمة الله: أرأيت لو أدخلت إلى قبرك وجاءك منكر ونكير، وسألاك في قبرك، أكنت ترغبين أننا قضينا حاجتنا منك، قالت: لا والله. ذكرها بالقبر بعد الموت وما فيه من الحساب.






3- قال يا أمة الله: لو حشرت في القبر وأصبحت في عرصات يوم القيامة وكنت لا تدرين: أتنجين أم لا تنجين؟ ولا تعلمين: أيثقل الميزان أم يخف؟ وهل تأخذين الكتاب باليمين أم بالشمال؟ أكنت ترغبين أن نكون قد قضينا حاجتنا منك؟ قالت: لا والله.






4- قال يا أمة الله: لو وضع الصراط على متن جهنم، وكنت لا تعلمين: أتجوزينه أم لا تجوزينه؟ «بمعنى أتعبرين الصراط أم لا تعبرينه؟ » أكنت ترغبين أننا قضينا حاجتنا منك؟ قالت: لا والله، وكفى.






وأخذت الموعظة من القلب مأخذَها، وأول عمل عملته بعد هذه الموعظة:






1- أسدلت الحجاب على وجهها، وليت سائر النساء يراقبن الله في الحجاب، ويحافظن عليه؛ فإنه عبادة من امتثلته أجرت، ومن كشفته عوقبت.






2- ولت طائعة، وقد جاءت عاصية.



3- ولت تائبة، وقد جاءت مذنبة.



4- رجعت إلى بيتها لتقر فيه ولا تخرج منه إلا لضرورة؛ عملاً بقول الله تعالى: } وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ { .



5- بكت حتى وصلت بيتها بكاء التوبة النصوح.



6- قالت لزوجها: أنت بطال، ونحن بطالون، الناس سباقون إلى الجنة وإلى الخيرات ونحن لا نزال متأخرين، قال هذا الرجل: كنت أريد أن تفسدي عبيد بن عمير فأفسدك، - والله لم يفسدها بل أصلحها - انظر إلى تصور بعض الناس لكنه أصلحها، ورجعت إلى ربها تائبة.






واعلموا أيها الأحبة: أننا إذا اتصفنا بهذه الصفات وحققنا المراقبة لله عز وجل أثمرت المراقبة الثمرات التالية:




([1] )مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب فضل الضعفاء والخاملين (2622).



([2] )رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الغيبة ص (27)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (3705).



([3] )البخاري كتاب التهجد باب قيام النبي r الليل (1130)، مسلم كتاب صفات المنافقين وأحكامهم باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (2820) واللفظ له.



([4] )البخاري كتاب اللباس باب إرداف الرجل خلف الرجل (5967). مسلم كتاب الإيمان باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا (30).



([5] )رواه أبو يعلي وإسناده حسن.



([6] )الترمذي كتاب الزهد باب ما جاء في حفظ اللسان وصححه الألباني برقم (2406).



([7] )الترمذي كتاب الزهد باب ما جاء في حفظ اللسان وحسنه الألباني برقم (2407).



([8] )الترمذي كتاب البر والصلة باب ما جاء في معاشرة الناس وحسنه الألباني برقم (1987).



([9] )صححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2541).



([10] )الترمذي كتاب العلم باب ما جاء في جاء في الحث تبليغ السماع وصححه الألباني برقم (2657).



([11] )مسلم كتاب الإيمان باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى (181).



([12] )الترمذي كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة يونس وصححه الألباني برقم (3105)، أحمد (4/332).




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق